قصائد للشَّاعر الإيطالي آلدو بالاتْسِسْكي Aldo Palazzeschi (1885-1974)
آلدو بالاتْسِسْكي في سطور:
اسمه الحقيقي آلدو جورلاني، وبهذا الاسم وقَّع أعماله الشِّعريَّة الأولى قبل أن يتَّخذ من اسم عائلة جدَّته لأمِّه، بالاتْسِسْكي، اسماً أدبيَّاً له. وُلِدَ في 2 شباط/ فبراير 1885 في مدينة فلورنسا. درس المحاسبة نزولاً عند رغبة والدِه، ثمَّ ما لبث أن تحوَّل إلى الفن والكتابة حيث درس التمثيل في كلِّيَّة "تومَّاسو سالفيني" للإخراج المسرحي، ومن بين رفاق المسرح هناك تعرَّف بغابريللينو ابن الشَّاعر الكبير غابرييل دانُّونتسو. لكن مع مرور الوقت بدأ بالاتْسِسْكي يبتعد عن المسرح وينكب بدلاً منه على الشِّعر. بفضل الحالة المادِّيَّة لعائلته كان قادراً على طباعة دواوينه على نفقته، وهذا ما كان، ففي سنة 1905 طبعَ ديوانه الأوَّل "الأحصنة البيضاء" باسم ناشرٍ وهميٍّ "تْشِزارِه بلانك" (الاسم الذي لم يكن في الحقيقة إلا اسم هرِّه الأليف). وقد قرَّبَ هذا الدِّيوانُ بالاتْسِسكي من الغروبيِّين لجهة أسلوبه أكثر ممَّا لجهة مضمونه. في سنة 1907 صدرت مجموعته الشِّعريَّة الثانية "سِراج"، وكما في المجموعة الأولى، فإنَّ القصائد هنا تميل إلى الغموض واستخدام رموزٍ تتمحور، بالرَّغم من حداثة سنِّ الشَّاعر، حول الموت والشَّيخوخة والمرض. بعدها بسنتين صدرت مجموعته الشِّعريَّة الثَّالثة "قصائد" التي كان لها الدَّور الأكبر في حمله صوبَ جماهيريَّةٍ أوسع، حيث دعته مجلَّة "شِعر" للنَّشر فيها. في سنة 1910 صدرت مجموعته الشِّعريَّة "المحرِق" التي أظهرت تحوُّلاً كبيراً عن الحركة الغروبيَّة نحو الحركة المستقبليَّة. غير أنَّه عاد ليعلن انفصاله عن الحركة المستقبليَّة في سنة 1914 عندما تحوَّلت من حركة فنية وأدبية إلى حركة تدعو إلى الحرب وتشجِّع عليها. بعد التحاقه، مُجبَراً، بالخدمة العسكريَّة خلال الحرب العالميَّة الأولى عاش حياةً منزوية ومنعزلة، فلم يشارك خلال حقبة الفاشيَّة بالحياة الثقافيَّة الرَّسميَّة، وصمت تقريباً عن الشِّعر لمدَّة ثلاثين عاماً تحوَّل خلالها إلى كتابة القصَّة والرواية. أمَّا المرحلة الشِّعريَّة الثانية، بعد مرحلة الصَّمت، فبدأها الشَّاعر بنشر قصائده في المجلَّات خلال الحرب العالميَّة الثانية، لتصدرَ في ما بعد في ديوانٍ بعنوان "قلبي" سنة 1968. في سنة 1972 صدرت مجموعته الشِّعريَّة "طريق الألف نجمة" التي قال عنها بالاتْسِسكي: "أردت أن أصنع شيئاً جديداً، متَّخذاً طريقاً مغايرة عِبْرَ هذه القصائد، دون طموحاتٍ إنشائيَّةٍ ولغويَّة. إنَّها محض مذكرات، تكاد تكون دفتر يوميَّاتٍ لا أكثر. لا تلتزم هذه القصائد بعهدٍ من العهود، بل إنَّها متروكةٌ للانزلاق والهرب...". وكانت تلك آخر إصداراته الشِّعريَّة، ففي الحادي عشر من آب/ أغسطس 1974، وفيما كانت الأوساط الثقافيَّة تستعدُّ للاحتفال بعيد ميلاده التِّسعين، توفِّي بالاتْسِسْكي في إحدى مستشفيات روما بعد أن تدهورت صحَّته بسبب إهماله لخرَّاج أسنانٍ حادٍّ أصابه.
* * *
إذن، حتَّى وإن اقترب بالاتْسِسْكي، خلال المراحل المختلفة لنشاطه الشِّعريِّ، من الحركات الأدبيَّة التي عاصرَها، إلَّا أنَّه حافظ دائماً على فردانيَّته وعلى صوته الخاص. في مرحلته الشِّعريَّة الأولى تأثَّر بالغروبيَّة، ومن بعدها، بالمستقبليَّة، ومع ذلك لم يفقد شيئاً من أصالة ملامحه الشِّعريَّة. إنَّنا لا نجد في قصائده المبوَّبة ضمن الحركة الغروبيَّة إفراطاً في تقديس الفراغ والخمول، فهو ولئن اقتفى بعض موضوعات الغروبيَّة، إلَّا أنَّه استبدلَ الدُّعابة بالأنين، ولطَّخ النَّبرة الرثائيَّة بروح الهزْل التي منحتْ قصائدَه سمتَها اللاهية. أمَّا اقترابه العفويُّ من الحركة المستقبليَّة فلقد كان من شأنه أن يفجِّر إلى أبعد حدٍّ طموحَه بتحويل الكلمة إلى أداة لهوٍ صرْفٍ. مع ذلك، رفض بالاتْسِسكي كلَّ قصيدةٍ تتَّصل بالأحداث المرحليَّة للتَّاريخ، وأراد للتجربة الشِّعريَّة أن تتحرَّر بالمطلق من جميع الالتزامات. وعليه أعلن رسميَّاً، سنة 1914، في مجلَّة "لاتْشِربا"، انفصاله عن الحركة المستقبليَّة، ونزوعه نحو الفرح ومعابثات الخيال: "ينبغي أن نعوِّد أنفسنا على الضحك من كلِّ ما اعتدنا البكاء عليه، لنقوِّي بذلك أعماقنا. لا يكون الإنسان إنساناً بحقٍّ إلَّا عندما يضحك [...] ينبغي أن نعلِّم أبنائنا الضحكَ، الضحكَ الأكثر إفراطاً، الأكثر تغطرساً؛ أن نعلِّمهم شجاعةَ الضَّحك بأعتى ما يكون الصَّخب...". هذا الموقف يجعلنا نقع عند بالاتْسِسكي على موضوعاتٍ ونبراتٍ جدُّ متنوِّعة، توحِّدها جميعاً، من حيث المبدأ، تلك الرَّغبة بتحطيم البنى التقليديَّة للقصيدة.
* * *
النُّصوص:
[من مجموعة "الأحصنة البيضاء" 1905]
العلامة(1)
هناك حيث تتقاطع الدُّروب
يتَّكئ على شجرة سروٍ صليب.
على سوادِ الخشب تومضُ
تواريخُ بيضاء.
مَن يمرُّ به يتوقَّف هنيهةً،
وبإصبعين فقط، وقد مَسَّ ذلك الخشبَ مسَّاً خفيفاً،
يرسم علامة الصَّليب.
*
آرا، مارا، أمارا(2)
في أسفلِ المنحدَر،
بين شجرِ سروٍ سامقٍ،
ثمَّة مرجٌ صغير.
في تلك الظِّلال تقبع
ثلاث عجائز
يَلعبن بزهرِ النَّرد.
لا يرفعن الرَّأسَ هُنيهةً واحدة،
لا يغيِّرن مواضعهنَّ يوماً واحداً.
راكعاتٍ على العشب
يَنكَبِبْنَ على اللعب في تلك الظِّلال.
*
بيتُ مارا
بيتُ مارا حجرةٌ صغيرةٌ مِن خشب،
بجانبه سروةٌ تظلِّله في النَّهار.
قُبالته تجري القطارات.
قابعةً في ظلِّ السَّروة السَّامقة هي ذي مارا تحيك.
للعجوز مِائةٌ من السِّنين،
تواصل حياتها وهي تحيك في ذلك الظِّلِّ.
القطارات تجري سِراعاً أمامَها
حاملةً البشرَ إلى البعيد.
ترفع رأسها هنيهةً
ثمَّ من فورِها تستأنفُ عملها.
القطارات تخورُ
إذ تتقاطعُ خطفاً أمام بيتِ مارا.
ترفع رأسها هنيهةً
ثمَّ من فورِها تستأنفُ عملها.
*
عجوزُ النُّعاس
للعجوز مِائةٌ من السِّنين.
لا أحد رآها تطوف في النَّهار.
كثيراً ما يعثر عليها النَّاسُ غافيةً
عند الينابيع:
لا يوقظها أحد.
على هسهسةِ الماء العذبة
العجوز تغفو،
وتلبث غافيةً في الهسهسةِ العذبة
أيَّاماً وأيَّاماً وأيَّامْ ...
*
الببَّغاء
للبهيمة(3) رِيشٌ بألوانٍ كثيرة
يلتمعُ في الشَّمس فتتقلَّب ألوانه.
على تلك النَّافذة يقبع مِن مائةِ عامٍ
يتأمَّل النَّاسَ في غُدُوِّهم ورَواحِهم.
لا ينطق ولا يغنِّي.
المارَّة يتوقَّفون للنَّظر إليه،
يحدِّثونه ويصفرون له ويغنُّون،
وهو يحدِّق صامتاً.
يناديه النَّاسُ
وهو يحدِّق صامتاً.
*
فاصلُ التَّلاشيات(4)
عِبْرَ الزُّجاج الفائق الإعتام
يمرُّ ضبابٌ بنفسجيٌّ خفيف:
ضياءٌ بالغ الرِّقَّة.
وتُسمَعُ النُّوتاتُ المحتضرة
لرقصاتٍ أكثر خمولاً.
يُرى عِبْرَ الزُّجاج
كيف تمرُّ خطفاً
الإزاراتُ البيضاء
لأزواج الرَّاقصين.
* * *
[من مجموعة "سِراج" 1907]
عبورُ النَّاصريَّات(5)
ناصريَّاتٌ بيضٌ، ناصريَّاتٌ سُود.
على ضفَّتي النَّهر
ديران يحدِّقان في بعضها منذ عهدٍ قديم،
تحدِّق بعينِ الصَّداقة العتيقة
في بعضها تلك البروج الصَّغيرة، بيضاءَ سوداءَ،
والرَّاهبات يتلاقين في المساء،
في المساءِ آناءَ الشَّفق.
يتلاقين مرَّتين، البيضاواتُ والسَّوداوات،
على الجسرِ، الجسرِ الذي يصلُ الدَّيرين،
يصلهما منذ القديم بصداقةٍ عتيقة،
والبروج الصَّغيرة تحدِّق في بعضها ضاحكةً
بيضاءَ سوداءَ،
والرَّاهبات يتلاقين في المساء،
في المساءِ آناءَ الشَّفق.
الكنيستان الصَّغيرتان تُفتَحان عندَ الشَّفق،
تخرج منهما الرَّاهباتُ خِفافاً ويلجنَ الجسرَ؛
في منتصف الجسر يتلاقين،
ينحنين البيضاواتُ منهنَّ والسَّوداوات،
يتحوَّلن كلٌّ نحو كنيسةِ الأخرى مُلقياتٍ بالسَّلام؛
يتلين هناك صلاةً قصيرة،
وخِفافاً يلجن الجسرَ من جديد.
يتلاقين ثانيةً في المنتصف،
ينحنين صفَّاً أبيضَ وصفَّاً أسود،
الرَّاهباتُ يتلاقين في المساء،
في المساءِ آناءَ الشَّفق.
*
حديقةٌ رطبة
الحديقة مُوصَدةٌ مُوصَدةٌ مُوصَدة،
مُوصَدةٌ بجدارٍ يمتدُّ
أميالاً وأميالاً وأميالْ،
جدارٍ مغطَّى بالعفن،
مغطَّى بحَزَازٍ أخضر،
منقوعٍ في وحولٍ غزيرة.
لا منفذَ يلوحُ في الحديقة
ولا ثلمةَ حتَّى تضيءُ هناك،
ليس إلَّا العفن المنهمر
يمكن أن يُرى، ليس إلَّا
نقيع الوحول الغزيرة.
الأرزُ السَّامق يجاوز الجدار،
الصَّنوبرُ الصَّلبُ الجذوع ينتأ بتيجانِه،
يبسقُ سروٌ، وماغنوليا مُحمرَّة،
وصفصافٌ، صفصافٌ جمٌّ
يطلق آهاتِه البعيدة،
مازجاً على الجدار دمعَه
المسفوك بالحزازِ الأخضر،
بالنَّقيعِ الرَّماديِّ للوحول.
من الخارج هي ذي الحديقة مُوصَدة،
مُوصَدة بجدارٍ
يمتدُّ أميالاً وأميالاً وأميالْ.
بين الظِّلال، بين الظِّلال ذات السَّطوة،
في أجمة الأشجار العظيمة،
لا أحد إلَّا ثلاث نساءٍ يطفن ببطءٍ،
فائقات الجمال: مثلَ ملكات.
يطفن ببطءٍ وفي صمت
بين ظلال الحديقة الموصَدة،
يسحبن وراءَهنَّ ملاءةَ الحِدادِ الثَّقيلة، النِّساء،
موشَّحاتٍ بخمارٍ
بالكادِ يحجبُ صفرةَ الوجوه.
* * *
[من مجموعة "قصائد" 1909]
مَن أكون؟
أأكون ربَّما شاعراً؟(6)
لا، البتَّة.
كلمةً واحدةً فحسب، كلمةً جدُّ غريبة،
تخطُّها آلامُ روحي:
"الجنون".
أأكون رسَّاماً إذاً؟
ولا هذا.
لا يملك إلَّا لوناً واحداً
لوحُ ألوان روحي:
"السَّوداويَّة".
موسيقيَّاً أكون إذاً؟
ولا حتَّى هذا.
ليس ثمَّة إلَّا نوتةٌ واحدة
في لوحة مفاتيح روحي:
"الحنين".
فماذا أكون إذاً؟
إنَّني واضعٌ عدسةً أمام قلبي
فأجعله مرئيَّاً للبشر.
مَن أكون؟
لست إلَّا بهلوانَ روحي.
*
ساعاتٌ موحِشة
من السَّقف تهوي إلى أسفل
واحدةً تِلْوَ الأخرى
السَّاعات،
تُسقِطُها إلى أسفل تِباعاً
السَّاعةُ ذات المطرقة،
فتهوي كلُّها
في طَرْقاتٍ جافَّةٍ متشابهة
على رأسي.
لَكأنَّ كلَّ طَرْقةٍ منها
وخزةٌ بسنِّ إبرة،
أو كأنَّ أحداً ينتزع منِّي شَعرة.
أيَّتها السَّاعات الموحِشة كرغيفٍ مستوحدٍ
لأجل اليوم ولأجل الغد
ولأجل أيَّام الأسابيع قاطبةً.
أيَّتها الفجريَّة، والغروبيَّة،
المسكونة بالأجراس،
والقريبة والبعيدة.
يا ساعات النَّهار التي
لا تضحك لعاشقٍ ينتظر.
أيَّتها السَّاعات الرَّماديَّة، والسَّوداء،
يا هدآتِ الأجراس،
القريبة والبعيدة.
هو ذا يدنو ذاوياً
خورَسُ الدَّير العتيق
خورَسُ النَّاصريَّات اللائي
يبحن بآلامهنَّ في جوقةٍ واحدة
طِوالَ السَّاعات،
ساعاتٍ يرينها هنَّ أيضاً موحِشة.
"في العُلى، في العُلى، في العُلى...
المجدُ لك يا الله!"
يا ساعاتِ الليل، وساعاتِ النَّهار،
المتشابهة كلِّها
التي لا تضحك لعاشقٍ ينتظر.
أيَّتها السَّاعات الموحِشة كرغيفٍ مستوحدٍ
لأجل اليوم ولأجل الغد
ولأجل أيَّام الأسابيع قاطبةً.
*
بحرٌ رماديٌّ
مفتوناً أحدِّق في ذلك البحر:
بحرٍ هامدٍ متشابه.
لا يموجُ،
لا عصفةَ تجعِّدُ ماءَه،
لا نَسَمَ يهبُّ عليه.
تغشاه سماءٌ رماديَّة
جدُّ خفيضة، كثيفةٌ، وخالدة.
مفتوناً أحدِّق في ذلك البحر.
لا سفينة، لا شراع، لا جناح،
لا شيء إلَّاه
صفيحةٌ هائلةٌ من فضَّةٍ صدئة.
فوقه
محجَّباً يبدو كلُّ كوكب.
الشَّمسُ تتلفَّع ببرقعِ حِداد،
والقمرُ بخمارٍ رمادي،
النُّجومُ التي لا تحصَى تحدِّق فيه
موارِبةً قليلاً
عيونَها المتوقِّدة.
مفتوناً أحدِّق في ذلك البحر.
لكن من صبَّ فيه ماءَه؟
أمِن جبالٍ انسفحَ؟
أمِنَ السَّماء انهمرَ؟
أم تراه مِن عيون الخليقةِ انسفكَ؟
أيُّها البحرُ الرَّمادي،
المستوي كصفيحة فضَّةٍ صدئة،
الهامدُ والمستوحد،
والمتشابه،
إنِّي أحدِّق فيك مفتوناً.
لكن أهو موجودٌ هذا البحر؟ أهو حقَّاً موجود؟
إنَّه لا ريبَ موجود!
أنا وحدي أراه،
أنا وحدي القادر على إطالةِ أمدِ النَّظر إليه،
الشِّراعُ نسجته بيديَّ:
هو أوَّلُ شراعٍ يشقُّ عبابَه.
*
ريو بو(7)
ثلاثة بيوتٍ صغيرةٍ صغيرة
بأسقفٍ مؤنَّفة،
مرجٌ صغيرٌ أخضر،
نُهيرٌ شحيحٌ: ريو بو،
سروةٌ مترصِّدة،
بلدٌ بالغ الصِّغَر، حقيقيٌّ،
بلدٌ كأنَّه العدَم، ولكن...
ثمَّة فوقه على الدَّوامِ نجمة،
نجمةٌ هائلةٌ، مهيبة،
تبدو كأنَّها...
تداعب بنظراتها القمَّة المدبَّبة للسَّروة
سَروةِ ريو بو،
أتُراها نجمةٌ عاشقة؟
أفي وُسعِ مدينةٍ عظيمةٍ
أن تفاخرَ بمثلِها؟
*
الباب
أمامَ بابي
يقف العابرون لينظروا،
والبعضُ ليهمسَ:
"هناك، داخل ذلك البيت،
الكلُّ موتى،
لا يُشرَّع أبداً ذلك الباب،
أبداً أبداً أبدا".
آه يا بابي الحزين!
أيُّها المدخلُ الكبير المعتم
المطرَّز بمسامير ضخمة لا تُحصَى عددا،
ما عدتَ تسمع
حفيفَ الحرير مائجاً أمامَك.
مصراعاك الهائلان مِن حديدٍ مُطاوِع،
ما عاد يطرقهما أحد،
لم يطرقهما أحدٌ
منذ عهدٍ بعيد.
أنت المنخورُ بالسُّوسِ،
المغطَّى بخيوط العناكب،
لم يفتحك أحدٌ منذ سنين وسنين،
لم ينفض غبارَك أحد،
لم يكشف بعضَ زينتكَ أحد.
النَّاس يمرُّون وينظرون،
يقفون ليهمسوا:
"هناك، داخل ذلك البيت،
الكلُّ موتى،
لا يُشرَّع أبداً ذلك الباب،
أبداً أبداً أبدا".
* * *
[من مجموعة "المُحرِق" 1910]
المَواكِب
اليومَ، تتراءى أمامي
طريقٌ طويلةٌ
لا نهاية لها،
مكتظَّةٌ بالمواكب.
طريقٌ طويلةٌ مغبَّرة
تمتدُّ إلى ما لا نهاية
مِن أمام بيتي بالضَّبط.
من نافذة غرفةِ نومي
أحدِّق
في كلِّ ذلك الرَّواح،
كلِّ ذلك اللهاث، وكلِّ تلك الوقفات.
مواكب ساكنة، مواكب مطوِّفة،
مواكب محلِّقة،
تنفضُّ في الطَّريق أمامي.
مواكبُ سامقةٌ وخضراء
مِن سَروٍ وشوحٍ،
مواكبُ أجنحةٍ، مواكبُ أيدٍ،
أقدامٍ، عُكَّازاتٍ، عيونٍ،
عيونٍ غريبة، متوقِّدة، هامدة،
نظراتٍ نافذة البصيرة،
نظراتٍ حُمْقٍ.
رجالٌ برَّاقون
مُدَثَّرون بالحديد،
رجالٌ نصف عراةٍ
ملتفُّون بالفرو،
يمضون قدُماً قدُماً،
تارةً سِراعاً وتارةً مُبطئين،
مختلطين بالأنعام
موكباً تِلْوَ الموكب.
مواكبُ بيوتٍ، مواكبُ قصورٍ،
سُفنٍ، زوارق،
نسوةٍ صارماتٍ
محشوراتٍ في العربات،
مومساتٍ فظَّاتٍ في زُمَر.
مواكبُ طيرٍ، مواكبُ حشراتٍ،
فوقَ مواكبِ سطوحٍ.
في أذنيَّ تصفرُ
ألفُ فكرةٍ بلهاء،
وتحلِّق في السَّماء خفيفةً خفيفة.
أحدهم يتوغَّل في البعيد،
دافعاً عكَّازه
يريدُ أن يخرق به العالَم.
وفي الأعلى تتجسَّس بدهاءٍ،
مواكبُ نجومٍ برَّاقة.
لكن ما كلُّ ذلك العبور،
كلُّ ذلك المضيُّ، كلُّ تلك الوقفات؟....
إنْ هي إلَّا رُكبانٌ رُكبانٌ رُكبان....
بان بان بان بان بان....
آن آن آن آن آن....
نننننننننننننننن....
ن..... ن..... ن..... ن..... ن.....(8)
في الخلفيَّة قابعٌ أنا أنظر،
هادئاً عند النَّافذة
نافذةِ غرفةِ نومي،
أنظر، وأنتظر.
لكن قولوا لي، أين أنتم ماضون؟
أين تمضون؟ أيمكن أن أعرف؟
ماذا يوجد في نهاية تلك الطَّريق؟
أماضون أنتم إلى مدينة الشَّمسِ، شمسي؟
أغبياء! حمقى! قفوا!
ألا تعلمون
أنَّ تلك المدينة
لا يمكن أن يدخلَها إلَّاي؟
أقسم لكم!
*
قَصْري ورأسي
عندَ النَّافذة
نافذةِ غرفةِ نومي،
في قصريَ المتهالك،
ألتذُّ طوال المساء
بالبقاء وحيداً مع رأسي.
اللذَّة، تقولون،
لا يمكن أن تبقى رحيمةً
مع شاعرٍ، مثلي، متبطِّلٍ.
أنظر إلى أسفل عِبرَ الوادي،
أنظر إلى الجبال، إلى التِّلال،
البحرُ لا يُرى من هنا.
وتدورُ تدورُ
وتتثنَّى السُّنونواتُ
حولَ قصري.
(آهِ كم تدور!)
وتدورُ تدورُ
وتتثنَّى
الأفكارُ حولَ رأسي.
(آهِ كم تدور!)
تحليقاتُ سنونواتٍ خِفاف
وأفكارٍ خِفاف.
(ما هي دائماً بِخِفاف).
وأتأمَّل أمامي الوادي،
الجبال، التِّلال،
الأشجار الهائلة هَوْلَ غابة،
منسَّقةً حدَّ الكمال،
في صفوفٍ تمتدُّ بلا نهاية،
أمَّا البحرُ فلا يُرى من هنا.
وتدورُ تدورُ
وتتثنَّى
السُّنونواتُ حول القصر الهرِم.
(آهِ كم تدور!)
وتدورُ تدورُ
وتتثنَّى
الأفكارُ حول الرَّأس الفتي.
(آهِ كم تدور!)
أفكِّرُ:
لو كان لكلِّ فكرةٍ
خيطٌ بين الشِّفاه
(كمثلِ العنكبوت)
لو كان في مناقيرها خيطٌ
(كمثلِ العنكبوت)
كلُّ السُّنونوات التي تدور،
كلُّ السُّنونوات التي دارت،
لكان قصري ورأسي
بَكَرَتين
جِدُّ جِدُّ جِدُّ منفوشَتين.
[اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي]
الحواشي كما وضعها المترجم:
1- في البداية كان عنوان هذه القصيدة "الصَّليب"، ثمَّ عُدِّل إلى "العلامة" درءاً للالتباس الذي قد يقع لوجود قصيدة أخرى للشاعر تحمل عنوان "الصَّليب"، هي أقل شهرةً من هذه.
2- آرا، مارا، وأمارا هي أسماء ثلاث نسوة مسنَّات، يرى البعض أنَّهنَّ يرمزن إلى ربَّات القدر الثلاث المسؤولات عن الولادة والحياة والموت في الميثولوجيا الرومانيَّة.
3- الصَّواب في العربيَّة أنَّ البهيمة تُطلق على الدَّواب ذات القوائم الأربع، ولكنَّ الشَّاعر يستخدم هذه اللفظة بدلاً من لفظة "طير".
4- المقصود بالفاصل هنا اللوح الزُّجاجي للنَّافذة الذي يمرِّر ضوءاً بنفسجيَّاً غامضاً.
5- نسبةً إلى النَّاصرة في فلسطين.
6- المطلع يذكِّر بقصيدة الشَّاعر سِرجيو كوراتسيني "وَحشة الشَّاعر العاطفيِّ البائس" المنشورة في جدليَّة ضمن باقة من قصائده اخترتها وترجمتها سابقاً.
7- Rio Bo هذه الكلمة ابتكرها الشَّاعر كاسم لبلدٍ ونهرٍ تخيُّليَّين لا وجود لهما.
8- لجأ بالاتْسِسْكي إلى استخدام الألفاظ الصَّوتيَّة المكرَّرة في العديد من قصائده، ولا هدف له من ذلك إلا اللعب بالكلمات؛ وقد استعضنا في هذا المقطع عن كلمة "مواكب" بكلمة "ركبان" لكي نقترب قدر الإمكان من روح النَّصِّ الأصلي.